ثقب الدولار الأسود

concept-money-cash-internet-online-binary

أضواء على التجربة الألمانية في تمويل عملية الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية

الكاتب: محمد غياث العلبي – عبد الحميد القتلان

خرجت ألمانيا الغربية من الحرب العالمية الثانية مدمرة تماماً، حيث انخفض إنتاجها الصناعي إلى ثلث ما كان عليه عام 1936، والبنية التحتية للمواصلات مدمرة تماماً، وربع المساكن مدمرة من قصف الحلفاء، ونصف المباني السكنية مدمرة في المدن، إضافة إلى 7.9 مليون لاجئ داخل ألمانيا و1.5 مليون لاجئ ألماني أتوا من خارج ألمانيا، كذلك صناعة الكهرباء والطاقة مدمرة بشكل كبير، كما انخفضت الحصة الغذائية للشخص إلى 1000 حريرة (الحصة الطبيعية بحدود 2400 حريرة).

*كيف تعافت ألمانيا الغربية؟

بدأت تظهر علامات التعافي على الاقتصاد الألماني مع بداية الخمسينات، لكن الكثيرون قد يعتقدون أن سبب التعافي هو خطة مارشال المشهورة التي قامت فيها الولايات المتحدة بتقديم دعم مالي لأروبا الغربية (بهدف محاربة النفوذ الشيوعي)، لتقوم الأخيرة باستيراد سلع من الولايات المتحدة بقيمة 13 مليار دولار (أي 130 مليار دولار حسب القوة الشرائية للدولار عام 2016)، وقد كانت حصة المانيا الغربية منها حوالي 1.5 مليار دولار (15 مليار دولار بأسعار اليوم).

طبعا عملية الإقراض تعتمد على مبدأ الصندوق المقابل Counterpart Fund والتي تعني إنشاء صندوق بالدولار لكل دولة مقترضة، على أن تقوم الدولة بتسديد القرض عن طريق الاستيراد من الولايات المتحدة والدفع بالعملة المحلية وبالتالي بالنتيجة سيصبح لديها مبلغ المساعدة متوفرة بالعملة الصعبة (الدولار) ومتوفر لاستثماراتها المستقبلية، إضافة إلى تخلصها من الفائض من عملتها المحلية وهذا ما يدعى التأثير المزدوج twofold effect.

طبعاً هذه الطريقة ما تزال متبعة في تقديم المساعدات للدول النامية.

من الطبيعي أن الكثير من القراء سيجد أن المبلغ المقدم متواضع ولا يكفي لإعادة إعمار ألمانيا الغربية، لكن النقطة الأساسية هي في كيفية تمويل ألمانيا الغربية لعملية إعادة الإعمار وليس في كمية المساعدات.

*كيف مولت ألمانيا الغربية عملية إعادة الإعمار؟

قامت ألمانيا الغربية بالتوصل لإنشاء “مؤسسة ائتمان إعادة الإعمار”

KfWKreditanstalt für “Wiederaufbau وذلك في عام 1948، وهو عبارة عن بنك مملوك للحكومة الألمانية الغربية ، ومهمته هو تمويل ورعاية عمليات الاستثمار بهدف إعادة الأعمار، وقد كان القسم الرئيسي من تمويل هذا البنك هو المساعدات المالية المقدمة من الولايات المتحدة عبر خطة مارشال وهو ما يزال يعمل حتى اليوم (آخر تقدير لإجمالي الموجودات عام 2014 هو 490 مليار يورو وإجمالي العائدات 74 مليار يورو).

ارتكزت سياسة الحكومة الألمانية على الحفاظ على احتياطيها النقدي من العملة الصعبة وتنميته، بحيث أنها ركزت على ما يدعى الاستثمارات الإنتاجية Productive Investments، أي الاستثمارات التي تولد إيرادات للحكومة الألمانية مثل الاستثمار في مجال الصناعة والطاقة والبنية التحتية لخدمة الإنتاج مثل المرافئ والسكك الحديد، ووضعت خطة زمنية لإدارة هذه الاستثمارات بحيث تكون بالنتيجة الاستثمارات تولد إيرادات إيجابية، فمثلا قامت بوضع خطة لمدة خمس سنوات للتمويل وقامت بتقسيم المبالغ المعدة للإقراض بين القطاعات المختلفة الصناعية والزراعية والطاقة والخدمات والبنية التحتية والسكن، بحيث تضمن بعد هذه المدة بأن تستعيد المبالغ المقترضة من الجهات المستثمرة من جهة وأن تسبب عمليات الاستثمار في هذه القطاعات إلى توليد صادرات تقوم بتغطية نفقات الاستيراد للمواد اللازمة لهذه النشاطات الاستثمارية، وبالتالي فإن القطاعات المولدة للعملة الصعبة في مجال الصناعة والطاقة والتجارة يجب أن تغطي نفقات القطاعات الغير منتجة مثل السكن والبنية التحتية والتعليم والمياه وغيرها.

طبعاً قامت مؤسسة الاتمان KfW بإعادة تدوير المبالغ المسددة على هذه القروض لتمويل مشاريع استثمارية جديدة وبنفس الآلية.

وبالتالي لم تركز الحكومة الألمانية على إنشاء المباني السكنية للمواطنين، على الرغم من حاجتهم الملحة لها، لأن ذلك سوف يوقعهم في الدين، وإنما ركزت على سلة متوازنة من الاستثمارات لم تتجاوز فيها المبالغ المُقرَضة المخصصة للسكن 9.5% خلال الفترة 1949-1953، بينما بلغت المبالغ المقترضة لصالح صناعة الكهرباء 24% والزراعة 14% والقطاعات المنتجة الأخرى حوالي 50%.

*ماذا يمكن ان نفعل؟

يعتبر الخطر الحقيقي لعملية إعادة الإعمار نزيف الدولار والعملة الصعبة الواردة إلينا عبر المساعدات وخروجه من الدائرة الاستثمارية، فاستناداً إلى التجربة الألمانية في إعادة الإعمار: في حال أننا لم ندرس الاستثمارات بشكل جيد بحيث نوازن بين الاستثمارات التي توفر في استهلاك العملة الصعبة أو تولدها مثل قطاع الصناعة والبنية التحتية من جهة، والاستثمارات التي تستهلك العملة الصعبة مثل قطاع الإسكان، فعلى الرغم من أهمية قطاع الإسكان لتغطية حاجات المواطنين، وعلى الرغم من أن قطاع الإسكان سوف يولد كم هائل من فرص العمل ويحرك رؤوس الأموال بشكل كبير، إلا أنه إذا لم يترافق مع نمو للقطاع الصناعي المحلي لتغطية حاجات قطاع الإسكان مثل مواد البناء المصنعة محلية وأدوات وتجهيزات البناء الخفيفة والمتوسطة مثل الشاحنات الصغيرة، في حال لم يتم هذا التوازن ، ولم تدرس سلاسل التوريد الخاصة بالإنتاج الصناعي بشكل مناسب، فسيؤدي بالنهاية إلى استنزاف الموارد النادرة من العملة الصعبة، وبالتالي ستتحول عملية الإعمار إلى ثقب أسود تعمل على إهدار وتبديد احتياطيات العملة الصعبة.

**ما هي المنتجات المستهلكة للعملة الصعبة؟

خلال فترة إعادة الإعمار واستناداً للتجربة الألمانية وإلى واقع الاستهلاك لدينا قبل الأزمة، نستطيع تحديد المواد المتوقع استهلاكها بشكل كبير مثل مواد البناء كالإسمنت والأجهزة الكهروميكانيكية المستخدمة في عمليات البناء مثل أجهزة الثقيب والقطع والخراطة، أما في مجال الزراعة والإنتاج الحيواني فهناك الأسمدة والبذار والآليات الزراعية والمضخات والشاحنات و هناك الأعلاف وخاصة فول الصويا، أما في المجال المواصلات فهناك السيارات والباصات والشاحنات الصغيرة والمتوسطة، وفي مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هناك تجهيزات الاتصالات المختلفة وأجهزة الموبايل والحواسب اللوحية والتجهيزات الشبكية، وفي مجال الطاقة لدينا أجهزة وأدوات وبنى توليد وتوزيع الطاقة الكهربائية، وفي مجال الصناعة لدينا التجهيزات الصناعية المختلفة وقطع الغيار.

**كيف نخفض من نزيف الدولار؟

في حال أننا اعتمدنا على استيراد هذه المواد المذكورة خلال عملية الأعمار، فمن المؤكد أننا المشاريع الاستثمارية ستتوقف ولن نستطيع الاستفادة من إيرادات هذه المشاريع لتمويل إعادة الإعمار.

لذلك من الضروري وضع خطة استثمارية لتأمين أكبر كمية ممكنة من هذه المواد، لتكون مصنعة أو مجمعة محلياً في بداية عملية الإعمار.

وهنا من الضروري مراجعة هذا الإطار التشريعي والإداري للتأكد من عدم وجود قوانين تعيق تنفيذ الخطة الاستثمارية من جهة، وتذليل العقبات الإدارية والروتينية لهذه المشاريع من جهة أخرى.

والعامل الآخر المهم أيضا هو موضوع التشاركية بين القطاعين العام والخاص، ومراقبة ومنع الاحتكار، والتأكد من توزيع الثروة بين السكان، فمثلاً من الممكن تحديد إجمالي الحصص السهمية لكل من القطاع العام وكبار المستثمرين وصغار المستثمرين (المواطنين) في هذه المشاريع الاستثمارية.

**ثبات الدولار

يعتبر ثبات قيمة الدولار خلال فترة الإعمار نقطة محورية في نجاح المشاريع الاستثمارية ومكافحة التضخم وتخفيض نزيف الدولار، ففي حال ارتفاع قيمة الدولار، فإن ذلك سيؤدي إلى ضياع قيمة القروض التي قدمتها الحكومة لتمويل المشاريع الاستثمارية من جهة وإلا خسارة المستثمرين لإيرادات هذه المشاريع، نتيجة انخفاض المقابل بالدولار للإيرادات المخططة على مشاريعهم (كما في حال المشاريع السكنية) وبالتالي انخفاض مواردهم المعدة للاستيراد.

 

About محمد غياث العلبي

تجول من هاتفك حول العالم مع مختارات من كبريات الصحف والمجلات والمواقع العالمية في مختلفة المواضيع الثقافية والترفيهية,مع مقدمة بالعربية حول الموضوع, ساحة للحوار وتبادل الآراء والمتعة. الهدف من الصفحة هو: 1. تطوير انساق اجتماعية جديدة متناسبة مع متطلبات العصر وثورة المعرفة والمعلومات. 2. تجشيع الشباب على التوظيف الصحيح للثورة الحاصلة في تكنولوجيا المعلومات. 3. تجشيع الشباب على قراءة المقالات المصدرة من المراكز الحضارية مباشر وباللغة العالمية. 4. توسيع الأفق الثقافي لجيل الشباب والانفتاح على الحضارات العالمية. 5. الانتقال بالثقافة من أروقة المواقع المتخصصة والمراكز الثقافية , إلى البيوت والحارات والأحاديث المتداولة بين العامة. 6. تحويل الثقافة إلى وسيلة للترفيه والتسلية والتواصل.
هذا المنشور نشر في تنمية. حفظ الرابط الثابت.

1 Responses to ثقب الدولار الأسود

أضف تعليق